النهاردة هنتكلم عن امرأتين مثيرتين للجدل والرعب في عالم الأساطير ومتشابهتين إلى حد كبير.. هنتكلم عن لاميا وليليث..
وفقًا للأساطير الإغريقية، لاميا Lamia كانت ملكة ليبية شابة صاحبة جمال مُبهر، وكالعادة كبير الآلهة زيوس Zeus أغواها وأصبح على علاقة معاها استمرت فترة طويلة ونتج عنها أطفال.
وكالعادة برضه، هيرا Hera زوجة زيوس لما عرفت بالعلاقة كان انتقامها من لاميا مش من زوجها سخام البرك زيوس صاحب العلاقات المتعددة مع البشر، نساء ورجال.
في يوم من الأيام، وأثناء وجود لاميا في غرفتها مع أطفالها الصغار، هيرا هبطت عليها من السماء وعرّفتها بنفسها..
في يوم من الأيام، وأثناء وجود لاميا في غرفتها مع أطفالها الصغار، هيرا هبطت عليها من السماء وعرّفتها بنفسها..
لاميا طبعًا اترعبت وأدركت سبب زيارة هيرا لها اللي بالتأكيد مش هتنتهي على خير. هيرا بكل هدوء أعلنت للاميا رغبتها في الانتقام منها بسبب علاقتها بزيوس. لاميا حاولت تتوسل بشتى الطرق وتترجى هيرا أنها تعفو عنها
وتشرح لها أن الموضوع مش بإيدها وأن زيوس اللي أغواها وهي ماتقدرش تعصي كبير الآلهة.. والتانية طبعًا دماغها جزمة.
وهنا بنلاقي أن فيه أكثر من رواية للي حصل بعد كده في الأسطورة:
وهنا بنلاقي أن فيه أكثر من رواية للي حصل بعد كده في الأسطورة:
الرواية الأول بتقول إن هيرا انتزعت جفون لاميا وأجبرتها على مشاهدتها وهي بتقتل أطفالها قدامها واحد ورا التاني، وبالتالي حرمتها للأبد من أطفالها ومن نعمة النوم.
الرواية الثانية بتقول إن هيرا أصابت لاميا بنوع من الجنون المؤقت خلاها تقتل أطفالها بنفسها (زي مع عملت مع البطل هرقل)، ولما لاميا فاقت من نوبة الجنون دي وشافت جثث أطفالها قدامها فقأت عينيها وانتزعتهما من رأسها!
هيرا سابت لاميا لفجيعتها ورجعت لجبل الأوليمب. لاميا، بسبب الصدمة النفسية اللي اتعرضت لها وعدم قدرتها على النوم، فضلت هايمة على وجهها في الشوارع مش مصدقة اللي حصل وأهملت واجبتها كملكة تمامًا وانتهى بيها الأمر عايشة في كهف مُطل على البحر بتأكل السمك النيء
واعتادت الظلام والوحدة والحياة العفاريتي دي. مرت سنين طويلة على لاميا بالمنظر ده لدرجة أن الناس في المملكة نسيوا وجودها أصلاً، ولاميا بسبب حياتها في الكهف جسمها بدأ يتحول، فبسبب عدم استخدامها لرجليها التصقا ببعض وبقوا أشبه بديل الثعبان
واتحولت عينيها\\مقلتيها للون الدم وجلدها أصبح حرشوفي سميك.. من الأخر يعني بقت وحش مخيف، نصفه العلوي جسد امرأة ونصفه السفلي ثعبان، عُرف لاحقًا باسم وحش اللاميا.
اللاميا بدأت تخرج من كهفها ليلاً لخطف الأطفال الصغار وأكلهم، أما الأطفال حديثي الولادة فكانت بترضعهم من ثديها لبن مسموم. فيه روايات بتقول إن زيوس هو اللي حول لاميا لوحش آكل للأطفال بعد انتقام هيرا منها علشان تنتقم لخسارتها لأطفالها
(ومش عارفة إيه ذنب الناس طيب؟ تقريبًا آلهة الأوليمب كلهم عندهم حول في موضوع الانتقام ده). في الروايات اللاحقة للأسطورة اللاميا لم تكتفي بأكل الأطفال وكانت بتغوي الشباب الذكور كمان، وبعد ما بتغويهم بتاكلهم هم النم.
لاميا، كوحش بيأكل الأطفال وبيغوي الرجال، مرتبطة ارتباط وثيق في عالم الأساطير بشخصية ليليث Lilith الشهيرة. واللي مش عارف من ليليث، فوفقًا للأساطير اليهودية ليليث هي زوجة آدم الأولى قبل حواء.
وعلى عكس حواء اللي اتخلقت من ضلع آدم فليليث كانت مخلوقة من طين زيها زي آدم، وعلشان كده الأسطورة بتقول لنا إن لما آدم كان بيحاول يسيطر عليها بشكل كامل – الأسطورة لمحت أن السيطرة دي كانت جنسية – رفضت وتعللت بأنهم متساويين وأن ليها الحق تسيطر عليه زي ما بيسيطر عليها.
المهم يعني ليليث سابت الجنة لآدم ومشيت، والملائكة لما لاحقوها وطالبوها بالرجوع ورفضت طالما آدم هيفضل صاحب السيطرة الكاملة بلغوها إن عقابها هيكون أنها هتفضل ملعونة حتى نهاية الدنيا وأنهم هيقتلوا مائة من أطفالها كل يوم (هربت في بطارية أرانب تقريبًا!)...
ليليث لما عرفت عقابها وعرفت بوجود خليلة أخرى لآدم توعدت بالانتقام من أبناء آدم من حواء، للأبد.
المهم يعني من ساعتها وليليث أصبحت كيان شيطاني مرتبط بقتل الأجنة في بطون أمهاتهم والأطفال الرضع وإغواء الرجال من البشر ومص دمائهم.
المهم يعني من ساعتها وليليث أصبحت كيان شيطاني مرتبط بقتل الأجنة في بطون أمهاتهم والأطفال الرضع وإغواء الرجال من البشر ومص دمائهم.
واللي بيتساءل هي بتجيب أكثر من مائة طفل في اليوم منين فهي بتجيبهم من معاشرتها للرجال الآدميين في أحلامهم. بالتالي، في كثير من الحضارات القديمة كانوا بيربطوا ليليث بالأحلام الجنسية والإجهاض وموت الأطفال حديثي الولادة.
لاميا وليليث امتداد واضح لشخصية لاماشتو Lamashtu في الأساطير السومرية. لاماشتو كانت روح شريرة وابنة كبير الآلهة أنو Anu وكان معروف عنها قتل الأطفال الصغار وإرضاعهم من لبنها المسموم وإغواء الرجال ومص دمائهم...
ودي الصفات اللي بتشترك فيها لاميا وليليث. الفرق الوحيد بس أن لاماشتو وجدت شريرة كده بلا أي هدف انتقامي أوقصة مأساوية تبرر خبثها.
طبعًا مش محتاجة فكاكة ولا تحليلات نقدية متمعنة علشان ندرك أن وجود لاماشتو ولاميا وليليث هو انعكاس للصورة النمطية للمرأة ككئان خبيث شرير بيستخدم جماله للإغواء والتدمير.
والصورة دي وتجلياتها في الأساطير خدمت الأعراف المجتمعية على مر العصور بأن المرأة لازم تلتزم بأدوار معينة وأي خروج عن الأدوار دي بيعتبر خروج عن طبيعتها والطبيعة الإنسانية ككل. بس القراءات اللي زي دي لأسطورتي لاميا وليليث اتهرست بحثًا، وعلشان كده هنحاول نقرأهم من زاوية مختلفة شوية.
أول وجه تشابه بين الأسطورتين لفت انتباهي، بعيدًا عن أن الشخصية الرئيسية امرأة، هو أن لاميا وليليث أتفرض عليهم وضع معين وبالرغم من اختلاف رد فعل كل واحدة منهم، الاتنين لاقوا نفس العقاب تقريبًا، وكأن العقاب ده كان قدرهم من البداية مهما كان اختيارهم.
لاميا لقت نفسها في علاقة مفروضة عليها مع كبير الآلهة زيوس وساعتها كان قدامها اختيارين: ترفضه وتتحمل غضبه وساعتها كان هيقلبها خنفسة ولا سدادة حوض، أو تخضع له وتجاريه في العلاقة دي. لاميا خضعت لسنين طويلة لحد ما بقى عندها منه أطفال كمان. ولكن في النهاية هيرا عاقبتها على خضوعها.
طيب نروح لليليث، ليليث لقت نفسها برضه في علاقة مفروضة عليها مع آدم وساعتها كان قدامها اختيارين: ترفضه وترفض رغبته في السيطرة عليها، أو تخضع له وتجاريه وتعيش كتابعة له. ليليث ثارت ورفضت العلاقة دي، ولكن في النهاية الإله عاقبها على ثورتها ولعنها ولعن ذريتها للأبد.
يعني خضوع لاميا وثورة ليليث الاتنين قُوبلا باللعن وكأن العقاب ده قٌدّر وفُرض عليهم من البداية مش نتيجة لأفعالهم واختياراتهم خالص.
تاني وجه تشابه بين الأسطورتين هو أن لاميا وليليث الجزء الأكبر من عقابهم كان خسارتهم لأطفالهم وبما أن الأطفال امتداد مادي ومعنوي للذات فالخسارة دي بترمز لفقدانهم جزء من أنفسهم، الجزء اللي بيحاولوا يعوضوه بعد كده بخطفهم وقتلهم لأطفال الآخرين
(طبعًا بغض النظر عن أن تصوير الفقد من خلال الأمومة علشان هما ستات قد إيه بيعكس الصورة التقليدية النمطية عن المرأة!). والموضوع بائس وحزين جدًا لأن اختيارهم للخضوع أو الرفض كان الهدف منه في النهاية هو الحفاظ على النفس –
لاميا أرادت الحفاظ على صورتها المادية وسلامتها وليليث أرادت الحفاظ على صورتها الذاتية وكرامتها – لكن في الحالتين انتهى بيهم الأمر بفقد جزء من الشيء اللي كانوا بيحاولوا يحافظوا عليه..
كتير بنتحط في مواقف، في علاقات أو شغل أو غيره، بنلاقي نفسنا مضطرين نختار بين الخضوع لتفادي العقاب أو الثورة لتفادي القهر الجسدي والنفسي، وفي النهاية، ومع أي اختيار بنهتدي ليه، بنلاقي أننا برضه خسرنا شيئًا ما من أنفسنا..
الخضوع بيأتي بالقهر والألم، والثورة بتأتي بالذنب والشك والمسئولية. كل اختيار بيجر وراه نوع مختلف من العقاب.
بعيدًا عن النكد ده، مؤخرًا اتفرجت على الموسم التاني من مسلسل The Alienist ولقيت أن القصة فيها إشارة واضحة لأسطورتي لاميا وليليث. <إنذار حرق> قصة المسلسل بتدور حوالين مجموعة من الحوادث المتسلسلة اللي بيتم فيها اختطاف أطفال حديثي الولادة وقتلهم.
في النهاية الدكتور النفسي وأصحابه المحققين بيكتشفوا أن الشخص اللي ورا الجرائم دي شابة جميلة اسمها ليبي بتخطف الأطفال وتحتفظ بيهم فترة وبعدين تسممهم. ولما بحثوا في أصلها وفصلها عرفوا إنها بتعمل كده علشان تورطت في علاقة خارج نطاق الزواج وهي مراهقة نتج عنها طفلة،
فأم ليبي أخدت منها الطفلة ودخلتها ملجأ واتهمت ليبي نفسها بالجنون ودخلتها مصحة وتبرأت منها. فليبي المسكينة لما كبرت بقى كل همها تعوض غياب الطفلة اللي اتخطفت منها فبقت هي نفسها تخطف أطفال وتعاملهم على أنهم بنتها وتحاول ترضعهم وتعتني بيهم ولما تكتشف أنهم مش بنتها بتسممهم.
زي لاميا وليليث، ليبي اتحرمت من طفلتها واتهمت بالفجور والجنون بسبب فعل شافته الأم (هيرا\\الإله) خطيئة وخروج عن المألوف والنتيجة كانت محاولة ليبي لتعويض الشعور بالفقد ده من خلال خطف وقتل أطفال الآخرين، وكأنها بتحاول محاولات بائسة لاستعادة صورتها الكاملة عن نفسها كابنة سوية وأم حنون
الجميل في القصة دي تحديدًا أنها بتستبدل نموذج الربّة\\الإله في الأسطورة بنموذج الأم\\الأب، وده بيتماهى مع كثير من القراءات النفسية للأساطير اللي بتقول لنا إن صورة الإله\\الربّة في الأساطير هو انعكاس لنموذج الأب\\الأم في النفس البشرية (كنا حللنا أسطورة هرقل من المنطلق ده).
في قصة المسلسل، بنعرف إن أم ليبي أجبرت على الزواج والإنجاب على عكس إرادتها، وبالتالي فاللي عملته مع ليبي هو محاولة لإلصاق مخاوفها ببنتها – حتى لو افترضنا أنها مش عايزة بنتها تُجبر على الأمومة زي ما حصل معاها – وكأنها بتعاقب بنتها على خطأها هي.
قد يكون عقاب لاميا وليليث أيضًا إشارة لعقاب الأهل لأطفالهم بسبب مخاوفهم وأخطائهم الشخصية: هيرا، كنموذج الأم، بتعاقب لاميا على ارتباط هيرا المهبب بزيوس وعدم قدرتها على التحكم في نزواته.. والإله، كنموذج الأب، بيعاقب ليليث على طبيعة آدم المحبة للسيطرة.
وكأن الأسطورتين بيقولوا لنا إن لما الأهل، سواء بشكل واعي أو غير واعي، بيعاقبوا أطفالهم على نواقصهم وأخطائهم الشخصية، العقاب بيقع على الأطفال بأبشع صورة ممكنة وبيترك في نفسهم أثر غائر حتى لو اختاروا الخضوع أو الثورة.
المثير للألم والسخرية هي أن نتيجة العقاب دي دايمًا بتبقى الإمعان في مسببات العقاب بشكل عكسي عنيف: بسبب أن هيرا مش عايزة لاميا تبقى في علاقة عاطفية مع زيوس وعندها منه أطفال، لاميا بقت بتحاول تغوي الرجال كلهم وتمتلك الأطفال كلهم.
وبسبب أن الإله مش عايز ليليث تفرض جزء من سيطرتها على آدم، ليليث برضه بقت تحاول تفرض سيطرتها على جميع أبناء آدم سواء بالغواية أو القتل. وبسبب أن أم ليبي مش عايزاها تبقى زوجة وأم، ليبي أغوت صديقها علشان يساعدها وبقت بتحاول تمتلك كل الأطفال اللي بتقتلهم لاحقًا.
لاميا بقت وحش وليليث شيطانة وليبي مجرمة بسبب العقاب الشديد اللي وقع عليهم مش بسبب أفعالهم.
مش بقول إني متعاطفة مع كون لاميا وليليث بيغووا الرجال وبيخطفوا ويقتلوا الأطفال، لكن الأسطورتين خلوني أفكر شوية في طبيعة الانتقام..
مش بقول إني متعاطفة مع كون لاميا وليليث بيغووا الرجال وبيخطفوا ويقتلوا الأطفال، لكن الأسطورتين خلوني أفكر شوية في طبيعة الانتقام..
ليه الناس بتنتقم؟ ليه لاميا وليليث شافوا أن أنسب وسيلة للانتقام للي حصل فيهم هو قتل الأطفال؟ طبعًا فيه جانب اتكمنا عليه من شوية وهو محاولة ملء الفجوة النفسية اللي اتسبب فيها العقاب من فقدهم لأنوثتهم وأطفالهم..
ده الواحد لما بيتحرم من أكلة بيحبها شوية لما بيرجع يأكل بيفرط في أكلها علشان يعوض فترة الحرمان دي. وقد تكون رغبة لاميا وليليث في الانتقام من البشر هو محاولة منهم للتعبير عن ألمهم. اللي أقصده أن لاميا وليليث مش بيقتلوا أطفال البشر علشان ده بيحسسهم بالسعادة والانتصار وكده،
ولكن يمكن هي محاولة بائسة منهم لمشاركة ألم الفقد بتاعهم.. أنهم يشوفوا ناس تانية بتختبره علشان مايحسوش بالوحدة في المعاناة أو على الأقل علشان يحسوا أن المعاناة البشعة دي حقيقية، موجودة خارج نطاق أنفسهم..
مدركة طبعًا أن ده مش سبب خالص يبرر اللي بيعلموه بس ممكن ده يفهمنا شوية دوافع الانتقام، وأن الانتقام مش دايمًا بيدل على شر مطلق، وحش بلا قلب ولكن أحيانًا بيخفي وراءه ألم لا يُحتمل.
دمتم بعيدًا عن وحوش أنفسكم.
تمت.
دمتم بعيدًا عن وحوش أنفسكم.
تمت.