النهاردة هنتكلم عن واحدة من أقدم الملاحم الأسطورية المعروفة للبشر، الملحمة السومرية الشهيرة جلجامش Gilgamesh..
نبدأ القصة من عند بطلنا الأسطوري جلجامش ابن الربّة نينسون Ninsun والملك نصف البشري لوجلبندا Lugalbanda، وده معناه أن جلجامش نفسه كان ربع بشري وثلاثة أرباع إله. المهم، بعيدًا عن المِكس جرل ده، جلجامش كان بطل مغوار ومعروف عنه القوة والجمال ومكانش حد بيعرف يقف قدامه،
ده بجانب أنه كان ملك مدينة أوروك Uruk اللي كانت من أكبر وأهم الممالك وقتها. وبما أن محدش كان بيقدر يتحدى جلجامش بسبب قوته الأسطورية المفرطة فطبيعي أنه بدأ يطغى ويعامل رعاياه وممتلكاتهم على أنهم مِلكه، فكان بياخد اللي عايزه منهم وبيفرض الضرائب المجحفة عليهم وبيستبيح نساءهم..
فالناس استغاثت بالآلهة وطلبت منها المساعدة لكبح جماح جلجامش، وبالفعل الآلهة استجابت لأهل مدينة أوروك بأنها صنعت إنسان بدائي من الطين على نفس مقدار قوة وعزيمة جلجامش واسمته أنكيدو (بتُنطق أنكي-دو) Enkidu.
أنكيدو زي ما قولنا كان إنسان بدائي بشعر طويل مغطي جسمه كله (في بعض المنحوتات القديمة كان بيتصور بقرنين زي قرون الحيوانات) ومابيعرفش يتكلم وفضل عايش مع الحيوانات في الغابة بيصطاد ويأكل معاهم كأنه واحد منهم لحد ما شافه صياد من أوروك واستغرب جدًا أن فيه إنسان عايش بالمنظر ده.
الصياد رجع للمدينة وأبلغ جلجامش باللي شافه، جلجامش استغرب برضه بس ماداش الموضوع أهمية وطلب، كنوع من التجربة المسلية، أنهم يبعتوا للراجل البدائي ده شامات Shamhat أشهر عاهرة في المملكة.
شامات راحت لأنكيدو في الغابة فعلاً وأغوته، وهو كمان ما صدق لأنه أول مرة يشوف أنثى من نوعه فريّل عليها، وفضلت قاعدة معاه في الغابة أسبوع. الحيوانات بقى لما لقت أنكيدو بينام مع واحدة بشرية والخطيئة لوثت طبيعته البدائية النقية رفضته وبعدت عنه.
ساعتها شامات، اللي بدأت تعرف تتواصل معاه، أقنعت أنكيدو أنه يسيب الغابة.. وبالفعل سابوا الغابة وراحوا لمدينة قريبة فضلوا عايشين فيها لحد ما حلقت له شعره وهذبته وعلمته الكلام والتحضر والذي منه.
وفي يوم شامات أخدت أنكيدو ورجعت على أوروك، وهناك عرضت عليه أنهم يحضروا فرح، ودي كانت أول مرة أنكيدو يشوف فرح. وهما في الفرح بيقابلوا راجل عجوز بيقول لهم إن الملك جلجامش هيجي دلوقتي علشان ينام مع العروسة قبل زوجها علشان هو متعود يعمل كده كل مرة يبقى فيه فرح في المملكة (طاغية بقى!)
أنكيدو استغرب جدًا وقال له إيه العبط ده! وأنتم ساكتين عليه إزاي؟ فالراجل قال له إن محدش قدر يتحدى أو يهزم جلجامش بسبب قوته الإلهية.. فالجلالة طبعًا أخدت أنكيدو وراح قال "أنا هتحداه!"
جلجامش عرف بطلب أنكيدو ووافق أنه يتحداه باستهزاء لأنه عارف أن مفيش بشري هيقدر عليه مهما بلغ من القوة. الناس اتجمعت وقعدوا يتفرجوا على العركة المهيبة بين جلجامش وأنكيدو.
ووسط ذهول الجميع، جلجامش ماقدرش يهزم أنكيدو بسهولة ويسر زي ما بيحصل عادةً مع كل مرة حد بيتحداه.. ولا أنكيدو قدر يهزم جلجامش برضه! الاتنين كانوا أشبه بإعصارين متساويين في القوة، والمعركة المستعرة دي فضلت لأيام، والاتنين مفيش حد فيهم عايز يستسلم.
وهما في وسط معمعة الخناقة، جلجامش شعر بنوع من التقارب والألفة تجاه أنكيدو، مش بس علشان أخيرًا قابل منافس يستحق العناء ولكن علشان شاف فيه صديق وونيس (كل ده وهما بيتخانقوا يا سبحان الله!)..
أخيرًا، جلجامش أعلن توقف التحدي وأخد أنكيدو بالحضن وقال له قدام الناس كلها "أنت من النهاردة أخويا وحبيبي"... ومن ساعتها جلجامش وأنكيدو ماكنوش بيفترقوا.
وفي يوم من الأيام، جلجامش وهو قاعد مع أنكيدو بتطرأ على دماغه فكرة أنهم يروحوا يصارعوا ويقتلوا الوحش العظيم هومبابا Humbaba حارس الغابة المقدسة اللي بيعيش فيها الآلهة. أنكيدو استغرب وقال له طيب ليه؟ هومبابا ده عمل لنا إيه؟ وليه نستفز الآلهة؟
بس جلجامش المغرور المحب للمعارك والشهرة كان عايز يطلع طلعة مع أنكيدو علشان يثبت أنهم أقوى رجال في الدنيا ويا أرض اتهدي ما عليكي قدنا. أنكيدو قعد يقول له يا عم يهديك يرضيك هجيب لك الرز بلبن اللي بتحبه بس بلا فائدة وجلجماش أصر على فكرته.
جلجامش وأنكيدو انطلقوا إلى الغابة المقدسة، والمثير للسخرية في الموضوع أن جلجامش في الطريق فاق لنفسه وشاف كمية التهور اللي في قراره ده وكان عايز يرجع بس أنكيدو أقنعه يبطل شغل عيال وأنهم يكملوا اللي جايين علشانه. جلجامش أستعان بأمه الربّة نينسون وطلب منها المساعدة،
وبالفعل نينسون راحت لزميلها الإله شاماش Shamash إله الشمس والنور وطلبت منه مساعدة جلجامش وأنكيدو في السيطرة على الوحش هومبابا. وبدون مساعدة شاماش، جلجامش وأنكيدو مكانوش فعلاً هيقدروا يتغلبوا على هومبابا ويربطوه.
هومبابا بيطلب الرحمة من البطلين وأنهم يسيبوه يعيش بما أنهم خلاص أثبتوا قوتهم واللي جايين علشانه، جلجامش بيتردد في قتل هومبابا بسبب الكلام ده بس أنكيدو بيصر على إكمال مهمتهم للنهاية وفعلاً بيقتلوا هومبابا.
هومبابا قبل ما يلفظ أنفاسه الأخيرة بيلقي لعنة على أنكيدو.. لعنة هتفضل ملازمة للبطلين وهتكون السبب في مأساتهم.
جلجامش وأنكيدو بيرجعوا أوروك والناس بتحتفل بيهم وبشجاعتهم وبيعيشوا متهنيين ومتلازمين كعادتهم لحد ما في يوم بتحصل حاجة غريبة جدًا..
جلجامش وأنكيدو بيرجعوا أوروك والناس بتحتفل بيهم وبشجاعتهم وبيعيشوا متهنيين ومتلازمين كعادتهم لحد ما في يوم بتحصل حاجة غريبة جدًا..
عشتار Ishtar ربّة الحب والجنس والحرب بتظهر لجلجامش وبتطلب منه يكون زوج لها لأنها شايفاه أشجع وأحلى وأجمد راجل على الأرض. جلجامش فكّر في الموضوع لثواني ورده على طلب عشتار كان أغرب من الموقف نفسه!
جلجامش قال لعشتار "لأ طبعًا، هو أنا مجنون ولا إيه؟ عايزاني ألقى مصير كل اللي أغوتيهم قبل كده؟" (عشتار كان معروف عنها أن كل اللي بيحبها بيلقى مصير مهبب علشان هي بتسيبهم أو بتزهق منهم). عشتار لما قوبلت بالرفض أتجننت.. "إزاي يرفضني وأنا إلهة! أنا عشتار!" وتوعدت جلجامش بانتقام عظيم.
عشتار راحت لأبوها أنو Anu كبير الآلهة وطلبت منه أنه يطلق ثور السماء المقدس على أوروك علشان يجيب عاليها واطيها. أنو رفض في الأول وقال لها بلاش شغل العيال ده وروحي شوفي حالك بس عشتار صممت وتوعدت بفتح أبواب الجحيم. في النهاية أنو لان وأطلق فعلاً ثور السماء على أوروك لاتقاءً شر عشتار
أول ما جلجامش وأنكيدو سمعوا صوت التدمير وخوار الثور المرعب أخدوا دروعهم وأسلحتهم وراحوا يصارعوا الثور، وبعد معركة ضارية قدروا يقتلوا الثور المقدس وينقذوا أوروك من الدمار.
بعدها بكام يوم أنكيدو حلم أنه شايف الآلهة بتلعب حادي بادي عليه هو وجلجامش وأن اللي هيختاروه هيروح لعالم الموتى عقابًا على قتلهم لثور السماء المقدس (أو هومبابا؟ بلاويهم كترت!).. وطبعًا مين اللي اختارته الآلهة في الأخر؟ بالظبط... أنكيدو.
أنكيدو بيحكي الحلم لصديقه جلجامش بس جلجامش بيقول له مايفكرش في الموضوع وإن غالبًا الآلهة بتخوفهم وخلاص. للأسف، بعدها بفترة قصيرة أنكيدو بيصاب بمرض مجهول لا علاج له وبيفضل مريض لأيام لحد ما بيموت.
لكم أن تتخيلوا حزن جلجامش على موت صديقه وأخوه أنكيدو.. جلجامش أعلن الحداد في المملكة ورفض يمارس مهامه المعتادة كملك وفضل قاعد يعيط جنب جثة أنكيدو مش عايز يدفنها لحد ما الدود بدأ يأكل فيها. حزن جلجامش على أنكيدو ترك قلبه مفطورًا ودفعه للتفكير في الغرض من وجوده في الدنيا،
وفكر أنه لو مُقدر له الموت زي أنكيدو وزي أي بشري آخر يبقى إيه الهدف من قوته وشجاعته وبطولاته وكل الهبل اللي بيعمله ده؟ وفي يوم، أنكيدو قرر يدور على أوتانابشتيم Utanapishtim في أخر الدنيا علشان يعرف منه سر الخلود، وقال لنفسه "لو فيه أي بشري يستحق الخلود يبقى أكيد أنا!"
بس قبل ما نروح مع جلجامش في رحلته الصعبة محتاجين الأول نعرف مين هو الراجل اللي بيدور عليه ده. أوتانابشتيم شخصية متكررة في أساطير بلاد الرافدين القديمة وكان أحيانًا بيظهر باسم أتراهاسيس Atrahasis. باختصار شديد، أوتانابشتيم هو المعادل الموضوع للنبي نوح في الأديان الإبراهيمية.
لما الآلهة قررت أنها ترسل الطوفان على الجنس البشري هو الوحيد اللي بنى سفينة وأخد معاه ما يكفي لإعمار الأرض مرة أخرى (هنبقى نحكي أسطورته بالتفصيل في وقت لاحق)، المهم إن الآلهة كافأت أوتانابشتيم وزوجته بالخلود وأرسلتهم يعيشوا في مكان غير معلوم في أخر الدنيا.
جلجامش أخد بعضه وأنطلق في رحلته المليئة بالمخاطر والصعاب ومواجهة الأسود الشرسة والعقارب الضخمة.. والملاحظ أنه كل مرة جلجامش يقابل حد أو كائن في رحلته العجيبة دي ويعرف سبب الرحلة كانوا بينصحوا جلجامش بالرجوع لأن لا جدوى من البحث عن الخلود، طالما هو بشري فمصيره الموت.
جلجامش كان راكب دماغه وبعد رحلة طويلة صعبة وصل فعلاً لأوتانابشتيم الشهير وحكى له قصته كلها. أوتانابشتيم تعاطف مع جلجامش جدًا بس برضه قال له إن الموضوع مش بإيده ونصحه بنفس النصيحة اللي سمعها مليون مرة خلال رحلته. جلجامش طبعًا أصر ورفض يرجع مملكته من غير ما يعرف سر الخلود!
أوتانابشتيم مابقاش عارف يعمل معاه إيه ولا يقنعه إزاي، فقال له لو عايز الخلود فعلاً محتاج تعدي من اختبار واحد بس، الاختبار ده هو أنك تفضل صاحي لمدة أسبوع. جلجامش قال له بس كده؟ بسيطة!... وأتقلب زي البلاص بعدها بكام ساعة وفضل نايم لمدة ستة أيام.
أوتانابشتيم قال له يعني أنت مش عارف تقهر حاجة بسيطة زي النوم، متوقع إزاي تقهر الموت؟
جلجامش فهم الدرس وقرر يرجع تاني لمملكته. وقبل ما يمشي، أوتانابشتيم وزوجته صعب عليهم أنه يمشي من عندهم مكسور الخاطر كده
جلجامش فهم الدرس وقرر يرجع تاني لمملكته. وقبل ما يمشي، أوتانابشتيم وزوجته صعب عليهم أنه يمشي من عندهم مكسور الخاطر كده
فأهدوه نبات قادر على تجديد الشباب.. النبات مش بيهب الخلود ولكن بيهب نعمة الشباب حتى الممات. في طريق عودته، جلجامش الأهطل نزل النهر يستحمى وساب هدومه والنبات على الشط، فجيه ثعبان سرق النبات وأكله ويُقال إنه بسبب أكله للنبات ده الثعبان بقى قادر على الخروج من جلده كل فترة.
جلجامش بيرجع أوروك خالي الوفاض لكن بيعيش فيها كملك عادل حتى مماته.
نهاية الملحمة قد تبدو محبطة شوية بعد كل الأحداث الجسام دي ومرمطة جلجامش وموت أنكيدو فطيس، بس الحقيقة الملحمة – على قدمها – الخط القصصي بتاعها وحبكتها الدرامية فيهم من النضج الروائي اللي ماشوفتهوش في الحكايات والأساطير اللاحقة.
القصة بتبدأ بتنفيرنا من شخصية جلجامش وبتربطنا عاطفيًا بشخصية أنكيدو وبعدين بتقصيه بشكل مفاجئ علشان نحس بفجيعة الفقد اللي أتعرض لها جلجامش وبالتالي تعلقنا بيتحول لجلجامش اللي بنهاية القصة بيحتل مكان وسط بين عالمه الروائي المتخيل ومشاعر القارئ..
بيتحول من بطل أسطوري خارق لإنسان عادي فيه من الضعف والقوة ما قد يجعلك تحبه وتكرهه في نفس الوقت.
حالة الوسط أو البين-بين تيمة واضحة في الأسطورة كلها. الشخصيات الرئيسية كلها بتحتل مكانة وسط بين حاجتين: جلجامش جزء إله وجزء إنسان، أنكيدو جزء إنسان وجزء حيوان، هومبابا جزء حيوان وجزء إله (واخدين بالكم من اللفة دي؟)،
حتى الآلهة في تصرفاتها في الأسطورة بتكشف عن جزء بشري أو حيواني في شخصياتها لما بتتعاطف أو بتعاقب بدون مبرر أو بتمشي وراء غرائزها. الدرس الأكبر اللي بيتعلمه جلجامش بنهاية الأسطورة هو ضرورة تقبل حالة الوسطية دي وأن أي خروج عنها والاتجاه للتطرف هيؤدي للإخلال بموازين الأمور.
حتى ظهور أنكيدو في الأسطورة وفي حياة جلجامش كان الهدف منه الحفاظ على التوازن وحالة الوسطية. جلجامش لما تطرف وكان بيتعامل مع غيره من البشر كأنه إله من السماء، الآلهة بعتت له إنسان بدائي حرفيًا من الأرض (مصنوع من الطين) علشان يفكروه ببشريته ومحدوديته..
وبمرور الوقت لما نسي الدرس الأول وافتكر أنه هو وأنكيدو مع بعض امتلكا السماء والأرض، الآلهة أخدوا أنكيدو منه علشان – لتاني مرة! – يفكروه ببشريته ومحدوديته. واللطيف في الموضوع هنا أن فعلين متناقضين زي المنح والأخذ كان تقريبًا ليهم نفس الغرض والنتيجة،
وعلشان كده أحيانًا بشوف أن أنكيدو هو البطل الحقيقي للأسطورة لأنه قدر يحقق التوازن وأعطى للقصة روح وهدف بوجوده وغيابه.
الفكرة بقى لو أنكيدو كان فعلاً البطل الحقيقي للأسطورة وشوفنا كل الأحداث دي من وجهة نظره، هل فعلاً الرحلة اللي مر بيها من لحظة خلقه لمماته كانت رحلة بطل (بالمعنى الأدبي اللي اتكلمنا عليه قبل كده) وقدر في النهاية يصل للتحقق بشكل إيجابي؟
أنكيدو أتخلق لقى نفسه كائن كده عايز يأكل ويشرب وينام ويجري زي الحيوانات وخلاص، وفجأة وبدخول شامات في حياته عرفته على المتع الحسية والمعنوية وبدأت تخليه إنسان "متحضر". ولما صادق جلجامش أتعرف على متع ورغبات أكثر تعقيدًا مثل السلطة والشهرة والبطولة والخلود.. إلخ.
وبالتالي مانقدرش نقول إنه فضل على الفطرة والنقاء اللي أتخلق عليهم، يعني كأنه تحول من الحالة الحيوانية للحالة البشرية وأنتهى بالحالة الروحانية (الموت) اللي قد يراها البعض أعلى مراحل السمو في، أو قد عودة للفطرة الأولى غير الملوثة وبكده يبقى حقق "مرحلة العودة" من رحلة البطل.
الملفت للانتباه في الموضوع أن القراءة دي للأسطورة ممكن تنفدنا على الفلسفة الكلبية Cynicism اللي بتقول إن كل ما الإنسان أقترب من حالة الفطرة الحيوانية وأبتعد عن سبل الحضارة وقيودها كل ما قدر يحقق السعادة.
في الأول لما بنتعرف على أنكيدو بنلاقيه عايش مع الحيوانات في سعادة وتناغم والبط يقوم فرحان من النوم يغطس ويعوم لحد ما قابل شامات وبدأ يكتشف جوانب التحضر، وعلشان كده الحيوانات نبذته بسبب اكتشافه للجانب الإنساني\\المتحضر في نفسه وبالتالي بعده عن الفطرة.
وفي مرحلة ما في الأسطورة بعد تلازم جلجامش وأنكيدو لفترة طويلة كان صعب عليا أفرق بين شخصية جلجامش وشخصية أنكيدو ولاحظت أن صفات من شخصية جلجامش المعقدة التصقت بشخصية أنكيدو البدائية النقية والعكس..
يعني أنكيدو في الأول كان رافض للظلم اللي بيمارسه جلجامش وهو اللي حاول يثنيه عن قتل هومبابا، لكن بعدها بنلاقي أن جلجامش هو اللي متردد في قتل هومبابا وأنكيدو اللي بيموته بكل وحشية بدون سبب.
التبادل في الشخصيات ده بيدل على تلوث فطرة أنكيدو بتحضر جلجامش، وتطهر جلجامش بفطرة أنكيدو، وكأن الفطرة والبدائية معادلة للنقاء والسعادة.
وفلسفة بفلسفة بقى، فمن الصعب تجاهل حقيقة أن الأسطورة بتتنبأ بالتاريخ الإنساني الفلسفي بشكل مبهر. في الأول بنلاقي جلجامش بيتحدى غيره من البشر وعايز يحط عليهم (طغيانه تجاه رعاياه وغيره من البشر)،
بعدها مابيكتفيش بتحدي البشر وبيتحدى الآلهة نفسهم (قتله لهومبابا ورفضه لعشتار)، وبعد ما بيتحدى الآلهة بيبدأ يتحدى نفسه وبيرفض طبيعته البشرية وبيحاول يسمو فوقها. الموضوع أشبه بتطور الفكر والطبيعة الإنسانية جدًا منذ بدء الخليقة..
الأول الإنسان كان كل همه يفرض سيطرته على الآخر ويتغلب عليه، وبعدها فكره تطور وبقى عايز يتغلب على فكرة الإله ويسطير عليه. مشهد قتل جلجامش وأنكيدو لهومبابا فكرني جدًا بمقولة نيتشه الشهيرة عن قتل الإله.
نيتشه بيقول: "لقد قتلناه – أنتم وأنا! نحن جميعًا قتلة. مات الإله! ويظل الإله ميتًا! ونحن من قتلناه! كيف يمكننا أن نعزي أنفسنا، نحن أكبر القتلة؟ إن أقدس وأعظم ما امتلكه العالم قد نزف دمه حتى الموت بطعنات مُدانا: من سيمسح هذه الدماء عن أيدينا؟ أي ماء سيطهرنا؟ أية مراسمٍ تكفيرية،
أية ألعابٍ مقدسةٍ يجب علينا أن نبتكر؟ أليس عِظَم هذه الفعلة شيئًا يفوق طاقتنا؟ ألا يجب علينا أن نصير نحن أنفسنا آلهة لمجرد أن نبدو جديرين بهذه الفعلة؟" تحدي جلجامش وأنكيدو للآلهة المتمثلة في قتل هومبابا بتمثل المرحلة الفاصلة دي في تاريخ الفكر الإنساني..
وبعدها جلجامش بيلاقي نفسه مضطر يحقق الخلود ويبقى هو الإله علشان يعوض الغياب ده زي ما نيتشه قال. الإنسان بيتخلص من فكرة الإله ولكن في المقابل بيلاقي نفسه في مواجهة مرعبة مع نفسه بعجزها وضعفها ومحدوديتها.
في ضوء التفسير ده ممكن نفهم ليه اللعنة اللي ألقاها هومبابا على البطلين كانت مرعبة: في مقابل تحديهم للآلهة، جلجامش هيفقد جانب مهم من نفسه وهيفضل يسعى وراء شيء يفوق قدرته، وده اللي حصل في العصور الحديثة فعلاً
وهو أن الإنسان بيسعى للسيطرة الكاملة وللعب دور الإله ولكن في المقابل بيفقد فطرته (أنكيدو) وإنسانيته (اتكلمنا عن ده قبل كده من ناحية فلسفية لما اتكلمنا عن الـ posthumanism والـ transhumanism وإزاي إن الإنسان بيحاول يسمو على حالته الإنسانية المحدودة والتوابع الأخلاقية لده).
الأسطورة مش بس بترصد رحلة الإنسان بالمعنى العام ولكن من الناحية النفسية الخاصة أيضًا بترصد رحلة اكتمال الشخصية الفردية. في الأول جلجامش كان عامل زي الطفل اللي حياته كلها بتبقى مبنية على نفسه واحتياجاته ورغباته بغض النظر عن الناس اللي حواليه،
ولما بيكبر شوية بيلاحظ وجود أشخاص وحاجات خارج كيانه وبيبدأ يتعلق بيها ويبني حياته عليها (علاقات حب، طموحات مهنية، شغف فني.. إلخ) زي ما جلجامش أتعلق بأنكيدو، ولما بيفقد الشخص أو الحاجة دي بيتعرض لصدمة كبيرة قد تؤدي إلى ثورة أو اكتئاب أو هروب..
أو تقبل الواقع وفكرة الفقد كحقيقة دائمة زي ما حصل مع جلجامش في الأخر.
الأسطورة مقالتلناش إن جلجامش دفن أنكيدو بعد موته والحكمة هبطت عليه فجأة كده وخلاص، وأنما صورت لنا تفاصيل الرحلة المؤلمة دي من الفقد إلى التقبل علشان نفهم قد إيه هي صعبة.
الأسطورة مقالتلناش إن جلجامش دفن أنكيدو بعد موته والحكمة هبطت عليه فجأة كده وخلاص، وأنما صورت لنا تفاصيل الرحلة المؤلمة دي من الفقد إلى التقبل علشان نفهم قد إيه هي صعبة.
مشهد جلجامش وهو قاعد جنب جثة أنكيدو المتعفنة وهو قاعد يعيط يفطر القلب وخلاني أفكر في كل مرة فقدت حد بحبه أو فقدت حلم من أحلامي وكل مراحل الإنكار والغضب والاكتئاب اللي مريت بيها علشان في النهاية أتقبل أن الحاجة دي مش هترجع تاني خلاص.
تعلق جلجامش بأنكيدو وحزنه عليه خلوه رافض لوجوده الإنساني ككل، رافض لفكرة الفقد والهشاشة اللي بتيجي معاها وحقيقة أننا كل مرة بنفقد حاجة بنفقد جزء من نفسنا معاها، وعلشان كده دور على الخلود وفشل..
لأنه في النهاية اكتشف أن الخلود مش هيتحقق إلا بتقبل فكرة الفقد والتعايش معها، مش بس فقد اللي بنحبه وأنما فقد أنفسنا أيضًا.
في النهاية جلجامش تخلى عن دوره كبطل أسطوري خارق وتقبل إنسانيته ومات، ولكن قد نجد بعض الرومانسية في حقيقة أن حلمه في الخلود أتحقق من خلال قصته اللي فضلت عايشة آلاف السنين.. أليس هذا أيضًا ضربًا من الخلود؟
دمتم خارقين.
دمتم خارقين.
ده المقال كامل للي زهقان يقرأ التويتات دي كلها: https://labanshysmusings.home.blog/2020/12/31/%d8%ac%d9%84%d8%ac%d8%a7%d9%85%d8%b4-%d9%88%d8%a3%d9%86%d9%83%d9%8a%d8%af%d9%88/