طائرة ملعونة ماقبلها ليس كما بعدها، عمت بعدها اللعنات والقلاقل، ليس على إيران فحسب التي منيت بالفقر رغم ما تطفو عليه من ثراء، وإنما على المنطقة بأكملها، فكان بعدها تدافعًا وانقسًامًا ودماء
لعنة لم تستثن حتى هؤلاء الهابطون خلف خميني بل طالتهم واحدا واحدا
كيف ذلك ..
حياكم تحت
لعنة لم تستثن حتى هؤلاء الهابطون خلف خميني بل طالتهم واحدا واحدا
كيف ذلك ..
حياكم تحت
الرابع من نوفمبر 1964م، قوات لا حصر لها من جهاز المخابرات والأمن القومي الإيراني المعروف اختصارًا بالسافاك، تقتحم فجرًا منزل روح الله الخميني في قم، أفضى الاقتحام إلى اعتقاله، لكن هذه المرة لم يتم اقتياد الرجل إلى سجن القصر، وإنما اقتيد مباشرة إلى مطار مهرآباد في طهران.
تضخْمٌ مفاجئ لروح الله الخميني، والذي لم يكن قبل عامين من تاريخ الاعتقال، أكثر من مجرد رجل دين معارض ضمن كثر، في ظل ساحة سياسية تموج بالاضطراب والتغير، صوته الجهوري وتركيزه على العاطفة الدينية واستغلالها مكنه من إحداث قلاقل وأزمات حقيقية لنظام الشاه.
لم ينقذ الاعتقال الأول للخميني عام 1963 الوضع بل زاده توترًا، وألهب فتيل الشارع وسمح للرجل باحتلال مساحة إضافية من الشهرة والذكر أفضت إلى الإفراج عنه، لكن مع تجدد انتقاده للنظام بعد ذلك بعام، لم ير الشاه أمامه خيارًا أفضل من نفيه خارج البلاد طمعًا في أن يخفت ذكره ويتلاشى للأبد.
عبر تفاهمات مشتركة بين الشاه وتركيا وافقت الأخيرة على استقباله لديها، حيث وصل الخميني إلى تركيا وأقام مبدئيًا في فندق بولفار بالاس بأنقرة تحت حراسة مشددة، قبل أن يتم نقله إلى مدينة بورصة، حيث تنتظره إقامة ضيقة المقام لن تتسع لشهور، سُمِح له بعدها بالانتقال إلى النجف بالعراق.
ذلك السماح له بالانتقال إلى النجف جاء بناء على موافقة من الشاه ذاته، الذي أراد بهذا الانتقال أن يبدد الخميني طاقته في مقارعات فقهية مع كبار مرجعيات النجف الذين يخالفونه الرأي بشأن نظريته الدينية القائلة بولاية الفقيه، نجح الأمر بداية وظل الخميني في النجف شبه ساكن لنحو 13 عامًا.
لم يكن سكونًا تامًا، بل شابته بعض المواقف والتصريحات وردات الفعل المعارضة، لكن لم يكن من شأن هذه الأشياء منفردة أن تمهد الطريق نحو تغيير سياسي، أو تؤثر بشكل حاد في المزاج الشعبي أو تؤلب الشعب وتحدث القلاقل كما السابق حال وجود الخميني في الداخل.
في تلك الأثناء وفي الداخل الإيراني وكرد فعل على كثير من القوانين والأحداث غير المسؤولة التي قام بها نظام الشاه، فضلًا عن دور مشهود لكثير من التيارات والمفكرين أمثال شريعتي ومحاضراته وكتبه، نمت حركة الشارع واضطردت، وأصبحت تؤذن بشيء ما كبير قادم.
بوفاة شريعتي عام 1977 فتح المجال على مصراعيه أمام الخميني كي يكون المعارض الأبرز لنظام الشاه، حيث التف حوله عوام الناس، وخلعوا عليه كثير من صفات البطولة والإنقاذ والإعجاز، حيث روج البعض أن وجه الخميني أمكن رؤيته في البدر، واحتفل كثيرون حينها في المساجد بهذا الحدث!!!
بعد تنسيق بين الشاه والنظام العراقي، تم إبلاغ الخميني أنه ليس مرغوب فيه على الأراضي العراقية، تبعتها محاولات فاشلة للانتقال إلى الكويت أو سوريا، وفي الأخير اقترح عليه مساعده حينذاك إبراهيم يزدي الذهاب إلى فرنسا، حيث ستسلط عليه الأضواء وسيكون صوته أكثر وضوحًا للصحافة العالمية.
بمساعدة أبو الحسن بني صدر الذي كان طالبًا في فرنسا حينها، وصل الخميني إلى مطار أورلي في باريس في 6 أكتوبر 1978، حيث استأجر له منزلًا في ضاحية نوفل لوشاتو الهادئة، ذلك المنزل الذي قدم نفسه منه للعالم كرجل سلام ومناضل مطالب بالحرية، سيعرف العالم مستقبلا انه رجل سلام!!!
سوى الرمزية الدينية والروحية التي مثلها الخميني لم يكن الرجل يمتلك الكثير ليقدمه، إذ كان كل من إبراهيم يزدي وأبي الحسن بني صدر وصادق قطب زاده يتحكمون بخطاباته، سواء تلك التي كانت توجه للصحافة العالمية التي ازدحمت حول منزله أو تلك التي سُجلت على شرائط كاسيت وسربت للداخل الإيراني.
ألهبت البيانات وأشرطة الكاسيت بصوت الخميني مشاعر العامة، وراح الشارع ينفجر بمظاهرات عارمة شاركت فيها جميع التيارات، وأدى التعامل العنيف الذي انتهجه النظام في مواجهة تلك الاحتجاجات في تزكية الفوضى والإنفلات وبدا نظام الشاه في أضعف لحظاته.
غادر الشاه إيران هربًا من وضع يتفاقم به ومصير نهائي يعرفه جيدًا، ومن ورائه ترك حكومة أزمة هشة عينها بنفسه تحاول جاهدةً بقيادة شابور بختيار أن تسيطر على الأجواء عبر تنازلات عدة، فيما أجواء الطيران قد أغلقت ومعها المطارات بأمر من الحكومة في محاولة منها لمنع قدوم الخميني من باريس.
أجواء صاخبة في مطار شارل ديغول بباريس، طائرة من طراز بوينغ 747 تستعد لرحلة عودة مصيرية إلى إيران، فيما قد خَصصت الرحلة مكانا على متنها لصحفيين من معظم الوكالات العالمية، الجميع يترقب تلك اللحظة التي تنطلق فيها الرحلة صوب إيران.
إيران تغلي وتشتعل بالنيران والعنف، فيما الخميني يصعد أولًا سلم الطائرة ومن خلفه جمع غفير من الرفقاء متفرقين ما بين مساعدين له من الملالي وقيادات ثورية أخرى شاركته مسيرة حض الجماهير وتأجيج الوضع، معظم التيارات فعليًا قد تلاقت على ضرورة رحيل الشاه، لكن دون وعي بما هو منتظر.
يتسع هذا الطراز من الطائرات لنحو 349 راكبًا، لكنها اكتفت على متنها بـ 200 راكب فقط تاركة في باريس عددا كبيرا من الراغبين بالانضمام إليها، والسبب في ذلك هو أنها قد ملأت خزاناتها تمامًا بالوقود، توقعًا لأي هجوم أو سوء قد يضطرها للعودة مجددًا إلى باريس.
جلس الخميني في المقعد الأول محاطًا بنحو أربعين من الملالي والمساعدين، كان قليل الكلام غارقًا في تصوراته حول ما سيحدث لاحقًا ربما، بينما بجانبه يجلس مساعده صادق قطب زاده الذي لعب بجوار يزدي وبني صدر دورًا كبيرًا في تنسيق العمل الصحفي للخميني خلال منفاه.
بينما الطائرة تحلق فوق البوسفور ، كان قطب زاده يعقد مؤتمرًا صحافيا على متن الطائرة متحدثا باسم الخميني ، لقد قضى زاده في منفاه نحو 20 عامًا قبل هذا اليوم، وسمى نفسه في هذا المؤتمر على أنه وزير قادم في الحكومة الثورية، وهو ما قد كان بتعينه لاحقا في المجلس الثوري ثم وزيرا للخارجية.
"السلاح في يد كل السكان، والإشارة باستخدامه جاهزة للصدور من خميني في أي لحظة، وهذه اللحظة اقتربت"، هكذا صرح زاده وقتها، وواصل قائلًا "في حال مُسّت شعرة واحدة منه ستسيل دماء"، وقتها انضم الخميني له وأجاب بقولته الشهيرة "لاشيء" حينما سئل عن إحساسه بعودته إلى إيران بعد كل هذه المدة.
أخيراً حطت الرحلة على أرض طهران تحديدًا في مطار مهراباد، حيث التقطت هذه الصورة التاريخية التي يهبط فيها الخميني على سلم الطائرة ومن ورائه كل حلفائه المقربين على اختلاف شاكلتهم وتوجهاتهم، كانت لحظة تاريخية فتحت على العالم والمنطقة حمامات من الدماء والتطرف والقلاقل.
هبط الخميني أولًا ومن خلفه مساعده صادق قطب زاده، وكذا حسن لاهوتي أشكوري فضلًا عن أبي الحسن بني صدر، وإبراهيم يزدي، هبطوا في تلك اللحظة وهم نجوم اللحظة وصانعوا الحدث، لكن لم يدر بخلد أيًا منهم وقتها أنهم بعد سنوات أو شهور قليلة قد يكونون في موضع آخر.
ذلك الموضع هو الاعتقال والقتل أو النفي على يد الخميني ذاته حليف الأمس، الذي بدى مسالمًا بداية وصاحب قيم وأخلاق ومستوعبًا لكل التيارات، إلى أن جاءته اللحظة المناسبة فلفظ كل من ساعده، وانفرد بالسلطة واقفًا دون اكتراث على جثث وحيوات كل من حملوه إلى مكانته ومنصبه.
فهذا قطب زاده الذي عُيِن وزيرًا في البداية وبسبب رفضه لفكرة ولاية الفقيه ومعارضته لها وما يستتبعها من صلاحيات سلطوية، تم اتهامه بالتآمر لاغتيال آية الله الخميني والإطاحة بالجمهورية الإسلامية، ومن ثم تم إعدامه في النهاية عام 1980.
أما حسن لاهوتي أشكوري الذي كان حليفًا مقربًا للخميني فقد اختلف معه وبات أقرب في توجهه إلى أبو الحسن بني صدر، فلم يكن من الخميني بعد أن خلع عن ذاته برقع الورع والمهادنة، إلا أن اعتقل أشكوري وألقى به في غيابات السجن، ولم يمض عامين حتى لفظ الرجل أنفاسه الأخيرة تم وطأة السم
امتد فتك خميني إلى المرجع الديني الأكبر كاظم شريعتمداري الذي أنقذه يومًا من قبضة الشاه ومن حكم الإعدام، وبسبب رفض شريعتمداري هو الآخر للإقصاء والتسلط الخميني، اتُهِم بالتآمر وجُرِد من درجة آية الله ونزعت عمامته ووضع تحت الإقامة الجبرية بقية حياته، وحين مات دفن دون جنازة.
أما أبو الحسن بني صدر مساعد الخميني الأبرز في باريس وأول رئيس لإيران بعد الثورة، فقد اصطدمت توجهاته المتسامحة مع التوجهات المتشددة للخميني، واتهم بالخيانة، وأمر الخميني بالقبض عليه، وأفشى الجنود الذين عينوا للقبض عليه أوامر صدرت إليهم فحواها أن القضاء عليه مفضّل على اعتقاله.