أميرا متوجا يحيط به الرغد من كل اتجاه، لفظ كل هذا الرغد والنعيم وانقطع للبحث عن المعنى، حمله التفكير إلى السبح بعيدًا في تجارب إنسانية عميقة اهتدى من خلالها إلى لحظة أسماها الاستنارة، مر على وفاته 2800 عام، واليوم يتبع أفكاره أكثر من نصف مليار شخص

بوذا.. ما القصة؟
حياكم تحت🌹
نبوءة محفزة ألقى بها جمع من الكهنة البرهميين بين يدي الملك، طفلك الصغير الذي ولد لتوه سيكون ذا شأن عظيم، إما حكيما يبلغ أقصى درجات الفكر، أو ملكا يبلغ أقصى درجات القوة والمكانة، خط الكهنة هذه النبوءة على الرغم من أجواء تشاؤم سادت بسبب موت أم الصغير بعد أيام من ولادته.
حكيمًا زاهدًا ذلك مستقبل واهن في نظر الملك، لقد أراد ابنه ملكًا قويًا يخلفه في الحكم، لذا فقد حرص على منعه من مخالطة الناس، فأبقاه داخل حدود القصر، ووفر له حياة فارهة مترفة تظللها فتيات راقصات وما لذ وطاب من متع الحياة، حياة لا تعرف الكد ولم تتعرف يومًا إلى معنى العذاب والمعاناة
الطفل هو سيدهارتا غوتاما الذي ولد عام 567 ق م، لملك يحكم إحدى الممالك الصغيرة القابعة تحت سفوح الهيمالايا بالتحديد في لومبيني الواقعة في نيبال الحالية، لقد شب الطفل وبجانب الترف لم ينس والده أن يتعهده بالتدريب القتالي حتى صار فارسًا ومحاربًا قويًا لا يضاهى.
حين بلغ سيدهارتا السادسة عشر من عمره ومن بين عشرات الفتيات أتيح له المجال ليختار زوجته، وهو ما قد كان حيث اختار الأميرة ياسوهارا زوجة له، لقد مرت سنوات تنشئته، وحان الوقت كي يختلط بالناس ويتفاعل مع أحوالهم، استعدادًا أن يسوس الناس ويحكمهم بعد أبيه.
بمناسبة الاحتفال بعيد الحصاد أتاح له والده الخروج من القصر والتجول في أرجاء المملكة، فإذ بعالم آخر تماما ينتظره، إذ مر أثناء سيره في الطرقات، برجل أرهقه المرض، ومسن أوهنه الكبر، وجثمان في طريقه إلى المحرقة، ثم برجل حليق الرأس بسيط الملبس قد تحرر وانطلق سائحًا في الأرض.
لقد تعرت الحياة أمام سيدهارتا عن قسوة لم يعهدها من قبل، وتأكد في ذاته أن كل سعادة أو متعة ليست إلا شيئًا مؤقتًا، وتفتق -في عقله- على إثر كل هذا كثير من الأسئلة الوجودية التي لا إجابة لها، حول المعاناة والترف والطريق للتحرر، و لماذا يجب على المخلوقات أن تعاني بهذه الصورة؟!
في ذروة هذه الأسئلة وسيطرتها على ذاته، استقبل سيدهارتا خبرًا سعيدا، لقد وضعت زوجته طفله الأول، حفل صاخب يقام في القصر بهذه المناسبة، ليلة طويلة يغط بعدها الجميع في نوم عميق، يلقي سيدهارتا نظرة مودعة لابنه وزوجته النائمين، ثم ينطلق مبتعدًا إلى الفلوات قاصدًا البحث عن الطمأنينة.
اقترب سيدهارتا من أحد الأنهار القريبة، حيث خلع ملابسه وما يرتديه من مجوهرات، واستبدل كل هذا بأسمالٍ بالية، ثم جاء بسيفه وضرب به شعره المشدود قاصًا إياه، ثم طلب من خادمه أن يعود بتلك الأغراض إلى القصر، حيث بقى وحيدًا في البرية لأول مرة في حياته.
بهذه الانطلاقة وهذا التخلي يلحق سيدهارتا بجمع كبير من رجال انسلوا عن واقعهم وركضوا في الفلوات والغابات زاهدين في الحياة وملذاتها باحثين عن التحرر، لقد قرر سيدهارتا أن يتخلى عن مسؤولياته الملكية وعائلته من أجل تحقيق الاستنارة كما اصطلح على تسميتها في تراثه.
التقى سيدهارتا بالعديد من معلمي التأمل الموهوبين وأتقن تقنياتهم عن ظهر قلب، وتعلم كيف يمكنه التحكم في ذاته وترويض شهواته، رافقه في رحلته خمسة من التلاميذ الذين آثروا معه الجوع على الشبع والتقشف على الراحة والتنقل والتجول على الاستقرار والدعة.
مدة ست سنوات ظل الرجل في حالة عميقة من الزهد والتقشف والتفكير، حتى بالغ البعض كثيرا ليروى أنه كان يأكل حبة أرز واحدة في اليوم!، لكن على كلٍ ومن شدة ما مارس على ذاته من صوم وتقشف وتخلٍ صار هيكلًا عظميا للموت أقرب منه للحياة.
ولشدة ما طبق على ذاته من قسوة وتخلٍ مضنٍ صار مثالاً نابضًا جاذباً للاقتداء به من قبل كثيرين، فالتف من حوله الأتباع وعرض عليه المعلمون أن يتخلوا عن مناصبهم له، لكنه بعد تفكر وتأمل كبيرين توصل إلى أن زهده هذا ليس إلا تلمسًا لإمكانيات العقل ولم يكن حلًا يومًا للألم وتقلبات الحياة.
انقطع الرجل عن صيامه المضني وقبل هدية من إحدى القرويات وتدعى سوجاتا حيث قدمت له طبقًا من الحليب ووعاءً منفصلاً من العسل، حيث لا يزالان يتناولهما أتباعه إلى اليوم، عادت قوته بعد هذا، واغتسل في نهر نيرانجانا، ثم انطلق إلى إحدى أشجار التين وجلس تحتها.
خلال تفكره ومراجعته لذاته تحت الشجرة، لاحظ أن وتر آلة السيتار لا يصدر صوتًا إن كان مرخيًا، ولا إن كان مشدودًا بقوة، بل تصدر نغمته في حالة وسط بين الشدة والترخية، وهنا نبضت نفسه بالطريق الوسط الذي يوزان الأمور ببعضها البعض ويبتعد بها عن التطرف سواء جهة النعيم أو الزهد.
بعد قضائه ست أيام وليالٍ تحت الشجرة جاءت ذكرى ميلاده الخامسة والثلاثين التي ولد معها مجددًا ووصل كما يشير تراثه إلى درجة الاستنارة والحكمة التامة، حيث تلاش حجب الصراع وعم الصفاء وانصهر الزمان والمكان في حالة مشعة من النعيم الذاتي الذي لا يعاني ولا يتألم لأنه يتفهم ويعي.
وصل سيدهاتار أخيرًا إلى درجة الاستنارة التي أرادها، وأصبح معها بوذا أي الذي استيقظ من غفلته وأدرك حقيقة الوجود، وانطلق الرجل متنقلًا سيرًا على الأقدام مبشرًا بفلسفته وفكرته التي توصل إليها في جميع أنحاء الهند، واتبعه أعداد غفيرة من أولئك الذين لامسوا فكرته واقتنعوا بها.
تمايز متبعي بوذا إلى ٣طبقات شكلوا ديانته لاحقا،طبقة الرهبان والراهبات والعلمانيين، الرهبان والراهبات هم ذكور وإناث ارتضوا أن يسلكوا الطريق الكهنوتي للديانة، والذي يقوم في العادة على التبشير بها ونشر دعوتها، أما العلمانيين فهم المؤمنون غير الكهنوتيين، القائمين على الأمور الحياتية
يقع على عاتق العلماني خمس التزامات وهي: ألا يقتل، ألا يكذب، ألا يغتصب، ألا يسرق، ألا يشرب الخمر، يلتزم الرهبان والراهبات بتلك التوصيات لكن يزاد عليها التزامات أخرى، من بينها: عدم تناول الطعام بعد الثانية عشرة ظهرًا، وعدم النوم على أسرة ناعمة، وعدم التعامل بالذهب أو الفضة.
بعد أن أفنى بوذا ذاته في نشر تعاليمه والسير بها في الأرجاء مدة خمسة وأربعين عامًا، جاءت لحظة تمام الانطفاء أو ما يعرف بـ "بارينيرفانا"، وهي اللحظة التي مات فيها وغادر الحياة، لكن تعاليمه من بعده بقت واستمرت وزيد عليها، وحوله أتباعه من مجرد حكيم إلى درجة الإله الذي يعبد.
ينقسم البوذيون حاليًا إلى طائفتين كبيرتين تضم أكثر من نصف مليار شخص هما ثيرافادا و ماهايانا، نشأ انقسامهما بناء على التدوين المتأخر لتعاليم بوذا وفلسفته في الحياة، والذي تم بعد عدة قرون من وفاته، حيث تم جمعه تراثه وتعاليمه في ثلاث كتب عرفت بالسلات الثلاث.
يتركز اختلاف الفرقتين حول عدد من الأشياء أبرزها اللغة المتعبد بها، والمستنيرين المعترف بهم من بعد بوذا، وكذا حدود دور البوديساتفا، والذي يعني المستنير المتناسخ، مثل الدالاي لاما حكيم بوذية التبت، والذي بموته ستنتقل روح البوديساتفا منه إلى شخص جديد في سلسلة غير منتهية من التناسخ.
طقوس البوذية وتوجهات أفرادها لا يحكمها إطار ديني تفصيلي، بل إن وجهات النظر والتأويل تطغى فيها إلى درجة كبيرة، جعلت منها في بعض طوائفها على عكس تمامًا ما يدعو إليه جوهرها من صفاء وسلام روحي، وهذا يفسر الاضطهاد والقتل الذي نراه لمسلمي بورما بحض من رهبان بوذيين.
يقدس البهائيون بوذا ويعتبرونه تجليًا من تجليات الإله، في حين يدعي بعض المؤرخين المسلمين أن بوذا نبي، وأنه هو ذا الكفل المذكور في القرآن الكريم وان دينه حرف بعد وفاته كباقي الاديان المحرفة، لكن على كلٍ لا دليل قوي يعضد هذه الآراء، وتبقى جميعها في طي الاجتهاد.
ختاما :
من أنت يا بوذا ؟
فيلسوف مفكر أم أنك نبي مرسل من ضمن رسل كثر لا نعلم عنهم شيئًا؟!
You can follow @majed_i.
Tip: mention @twtextapp on a Twitter thread with the keyword “unroll” to get a link to it.

Latest Threads Unrolled:

By continuing to use the site, you are consenting to the use of cookies as explained in our Cookie Policy to improve your experience.